بقايا طفلــه !! << من كتابتي بعد ...

بقايا طفلــه !!

بعد كل هذه السنين عاد .. نعم عاد .. ولم أكن أتوقع رؤيته. اعتقدت لوهلة أنني أحلم ..!ولكن سرعان ما أيقنت بأنني محاصرة وراء قبضان الأحزان ..

حينما كنت أبحث بين أشيائي القديمة .. وجدته . تذكرت أيامي الضائعة .. أحلامي البائسة .. عبراتي الخائفة .. نعم وجدته.. وجدت صورته من بين أشيائي .. فحملتني على نسمات الذكريات .. نحو ماضٍ أليم ..

كنت أحاول نسيانه .. أغمض عيني حينما أتذكره .. وابتسم لئلا تسقط دمعة حائرة.... كنت فخورة به ...

أسقاني أعذب الكلام ... إلى أن أصبح كلامه كاللؤلؤ المصفوف يزين عنقي .

شجعني عندما فقدت الثقة في نفسي ..

حماني من الزمن القاسي .. كساني الحياء !!! وأصبحت الحشمة تدور حولي !!

ضمني عند وفاة والدتي وأنا في أشهري الأولى ... لعب دوري .الأب. .. والأم !!!

كان يصد أي شي يؤذيني ! أو يحسسني بفقدان حنان الأم .فأنا طفلته الوحيدة!أهداني حياته.. وباع لي أيامه !!

كبرت وكبرت معي الأيام والآمال.فكل يوم يمر كان والدي يزداد ثقة بي!ويتمنى أن أصبح أفضل من غيري كثيرا

مع مرور الأيام .. والساعات ...

تخرجت من المرحلة الثانوية ! وهاقد أتى موعد تحقيق الآمال!! رفض والدي تسجيلي في الجامعات الموجودة في المنطقة ! أصر على دراستي في الخارج !!

رفضت بشدة!فلم أكن أتوقع أن يأتي اليوم الذي نفترق فيه بهذه السهولة! رأيت الإصرار في كلامه!

ترجمت ذلك ! بأنه يريد التخلص مني ! ( كم كنت حمقاء حين ذاك ) !

حاولت فصل نفسي عنه! حاولت الابتعاد عنه في هذه الأيام!لأعتاد على قسوة الغربة! ألم يكفي فقداني الأم !!

كأن الحياة سلبت مني الهواء !! وهاهي تلحقه بالماء !!!

هاقد دقت ساعة الفراق ! وحان موعد الجروح والآلام! رحلتي بعد ثلاث ساعات فقط !!! . فلابد مني الذهاب إلى المطار !!!

ألقيت آخر نظرة على منزلنا !! بكيت كما كنت أبكي وأنا صغيرة على مخدتي الكاتمة ! ودعت أركان غرفتي !! وأخذت معي باقي ذكرياتي !!! (كم سأشتاق إليك ياغرفتي !! سأفتقدك يا منزلي ! لن أنسى أمانك يا بلادي !)

حان موعد توديع والدي !! لا لا لا لا يمكن فعل ذلك !!

فأنا أريد من داخله !!! كيف يمكنكم فصل الجسد عن الروح !

ضممته ولم أرد الانفصال عنه ! كنت أتجاهل النظر إلى عيني والدي ! لئلا أرى نظرته الخائفة !! التائهة !!

أبي المسكين ! لم يقدر على كتم حزنه بداخله! فانفجر بالبكاء! وأخذ يصرخ!(عودي إلي يا بنيتي!)

ولكنني كنت قد جررت ذيل الانكسار ! .. ورحلت !!

كنت أرى منزلنا .. ولكنه سرعان ما تشتت صورته!

وصلت إلى المطار !! قررت فتح باب السيارة ! ولكنني تراجعت! كنت أتمنى العودة فقط لأقبل كف وجبين والدي ! نزلت تائهة لا أعلم ما ينتظرني بالداخل !!!

دخلت ! ورأيت مالم أرد رؤيته ! جميع الفتيات في عمري تودعهن أمهاتهن وأخواتهن!إلا أنا وحيــده !!! صامته !!!!! منسكرة !!!! متفككة !!!!!

أخذت ابكي واصرخ!لماذا تركتني يا أمي! أريدك في هذه اللحظة .. ضميني! أعيدي تجميعي . فأنا من بعدك ضائعة!

أبـي..لماذا قسوت علي؟وتركتني لأواجه مصاعب الغربة لوحدي!لم أكن اطمح بالدراسة في خارج نطاق مدينتنا!

صحوت من أحلامي المزعجة على صوت النداء الأخير لرحلتي !!

جمعت أوراقي !! وقدمت تذكرتي !!! لأكن من المسافرين إلى اللا شيء !!

توجهت إلى مقعدي الذي كان بالنسبة لي .... مصيري الأبدي !!

أرى الفتيات سويه ... صديقات منذ فتره ! يضحكن ويتسامرن !

إلا أنـــــــا ! أتسامر مع ذكرياتي القاتلة !! و دموعي الغزيرة !!!

أغمضت عيني لأنسى ما أنا به! فزارني النعاس أخيرا! لم أشعر بما حولي! صحوت بعد فتره وقالت لي المضيفة إنه لم يبقَ إلا نصف ساعة على هبوطنا !

نزلت إلى بلدي الثاني الغريب!كان الثلج قد كسى أرض المدينة , وصلت إلى شقتي التي سأسكنها مع مجموعة من الفتيات!في نفس عمري! وتقريبا ننتمي إلى نفس الجامعة!!!

دخلت وانبهرت بمنظرها!فلم أحلم يوما بالسكن في مثل هذا المستوى!(شكرت الله! ودعوته بإطالة عمر أبي وبرحمة أمي!)

اتصلت على أبي وطمأنته أنني وصلت بحمد لله وسلامته! منعت نفسي من البكاء!لأنني استنتجت من نبرة صوته انه كان يبكي على فراقي .قبل اتصالي بثوانٍ معدودات !!!

سلمت على الفتيات!وعرفتهن على نفسي! وبعد فترة! استسمحت منهن أن ادخل إلى غرفتي لارتاح ولأرتب ملابسي!

في بداية أيامي في هذه البلدة الغريبة ! كرهت نفسي ! وكرهت العيش هنا!كم فكرت بالهرب والرجوع إلى منزلي القديم! لأحظى على نصائح والدي ! وليطبطب على رأسي بيديه الحنونتين !!

ولكنه مع مرور الوقت والدقائق ! كانت الفتيات يحاولن إقناعي بإكمال مسيرة الدراسة سوية !

لن أكذب!فقد أقنعني بالاستمرار معهن! وأصبحنا أكثر من صديقات! أصبحن أخواتي اللاتي لم تنجبهن أمي!

رأيت الحياة بشكل آخر !! بعين أخرى ! حاولت تناسي الماضي شيئا فشيئا! حتى نجحت ! بل حتى صرت لا أهتم الكثير بوالدي !!.مزقت كتاب الماضي! وبدأت صفحة جديدة!

اتصلت بوالدي بعد مضي خمسة أشهر من آخر مكالمة حدثته فيها!أحسست من نبرة صوته!أنه مريض!

وكنت كلما أسأله عن سبب تغير صوته !! كان يجاوبني (( كبر السن يا بنيتي !! ))

لم اقتنع بإجابته !

فاتصلت ببعض من جيراننا ليخبروني عن حال والدي !

قالولي إنه يعاني من مرض حاد في القلب !

أصبحت أتصل به كل دقيقه لأطمئن عن حاله !!! ولمت نفسي على تصرفاتي الغبية خلال سفرتي!

فهل كان سيكلفني اتصالي على والدي أكثر من خمس دقائق !

ذات يوم !! اتصلت عشرات المرات !! ولكن لا مجيــب !

انقبض قلبي !! وأصبحت أصرخُ !!

حاولت وحاولت !!! ولكن !! لا مجيــــب !!

كدت أُجن في تلك اللحظة ! اتصلت ببعض من جيراننا ! ليذهبوا للاطمئنان عن حال أبي !

رن هاتفي !! بعد ساعة من اتصالي بوالدي !

كنت أعلم أنه بحالة خطرة ! فلذلك قررت أن لا أجيب على اتصالهم !

ولكن بعد محاولات ! رددت .. وقالولي: أباك رحل يابنيتي !! ادعي له بالرحمة والمغفرة !! فقد كان يحبك !! وأوصانا عليك قبل وفاته !!!

أصابتني حاله مريبة ! لم أتوقف من البكاء !وقفن صديقاتي بجانبي ! وعظمن أجري ! ووعدنني بعدم تركي في هذه الظروف القاسية ! إلى أن تعديت هذه المرحلة !

تأقلمت مع وضعي الجديد !! لا أب !!! ولا أم ........ !!! ولاحتى إخوة !!!!

أكملت دراستي الجامعية ! وأكملت الماجستير مع صديقاتي أنفسهن ! وبعد مضي خمس سنوات من وفاة والدي.. قررت أن أعود مره أخرى إلى عالمي القديم ! ........

وصلت إلى غرفتي القديمة !!! فتحت الباب ! سقطت دمعتي ! وأخذت الذكريات تسرع نحوي !!! تخترقني ! تمزقني ! تحرقني !

كل شي يذكرني به !

أخذت أبحث بين أغراضي القديمة! ووجدتها !

أزلت عنها الغبار .. وقبلتها !

كم اشتقت إليك يا والدي !!!